السبت، 3 أغسطس 2019

فم آخر للماء...للشاعر شاهر خضرة



قراءة في "فم أخر للماء" للشاعر شاهر خضرة 

رغم أنني متابعة جيدة لمعظم نتاج الشاعر شاهر خضرة إلا أنني ما أن حصلت على "فم آخر للماء" حتى رحت اقرأه كما لو كانت قصائده كلها جديدة بالنسبة لي ... ديوان يكاد أن يغرقك بالماء بل تكاد تتقي وانت تقرأه "شتاء" متعدد النبرات ... فكلمة "ماء" "مياه" "مي" موجودة تقريبا في كل قصيدة في الديوان وان لم توجد صريحة فإنها موجودة على شكل "دموع" او "نهر" او حتى "خرير..." وكأن اختيار الاسم "فم اخر للماء" للديوان لم يتم بواسطة الشاعر بل بسلطة الشعر نفسها... الشعر الذي كان ولازال واسطة الشاعر بين قلبه والاخر... سواء الطبيعة، البشر، المرأة او حتى الموت ذلك الموت الذي حضر بقوة هو الاخر...

الفم... هو مخرج الكلمات وهو يد الشاعر التي تقود داخله في هذه الحياة، والماء هو الحياة بعينها ...تلك الحياة التي يحاول الشاعر فهمها في الديوان بأكمله ، يحاول مشاكستها احيانا وتحديها في كثير من الاحيان,, مرة ينظر اليها من السماء، ومرة من داخل الارض، فالباب لا يفتح كما كل الابواب ولكنه يفتح من الداخل، وقطرة الحليب ترضع من ورا...

هناك شعور داخلي بعيد عن الكلمات المكتوبة تربطني بما اقرأه من الشعر، وفي هذا الديوان تراوح بداية من شعور بالدهشة والاكتشاف الى شعور بالخذلان والحزن وربما الضياع في جزء اخر منه.... وكأن الروح التي تكتب تفصح آن الكتابة عما يدور في شعورها المواز للحظة الكتابة...

استطيع ان اقسم الديوان الى اجزاء بكل سهولة اجزاء تشعر ان روح الشاعر شابة تحلق عاليا تبتكر أبعاداً يحلق بها حتى لو بدت جامدة للبعض "كالحيطان البيضاء" أو مفردات الطبيعة واهمها بالنسبة للشاعر "الحجر" الذي حضر كثيرا في ثنايا الديوان وكأنه معادل للماء او هو جزء منه فقوة الماء لا تظهر الا  بوجود هذا الحجر...الحجر الذي يشكل مع التراب مفردة هامة من مفردات الطبيعة ومفرادت الشاعر نفسه...

فحنين الشاعر للبحث عن جذوره يرجع الى ما قبل البدء .. ربما الى الفكرة التي أنشأت ال"بني ادم" فالجذور "الشروش" التي تشكل مفردة اخرى من مفرادت هذا الديوان تحضر لتشير للنشأة او للعلاقة ما بين الانسان والتراب ... علاقة صمود وحياة...

 حلق الشاعر عليا في لغته الشعرية بالدارجة السورية حتى جعلها وبكل يسر تجاريه في تجلياته الصوفية وفي بحثه عن معنى للوجود...  فالشاعر اوجد سونيتاته الخاصة به تلك التي لن تمل منها لو قرأتها عدة مرات ففي كل مرة ستجد ما يجذبك اليها...
اتذكر حين التقينا بالشاعر ضمن جلسة بعد امسية شعرية، قرأ علينا "ذيب الشلايا" واتذكر انني اصبت بالدهشة والذهول من هذا اللغة الجميلة والشعر الصافي والتبادل السلس ما بين الدارجة والفصحى واتذكر انني استغربت جدا من عدم الكتابة عن الديوان بشكل مفصل ... فهذه التجربة غاية في الجمال وتستحق ان يكتب عنها الكثير وان تدرس بشيء من التفصيل...
"العطشان دوم هواجسو كثيرة ..
مناماتو كلا ميّ
صافية
زرقة
خضرا
عكرة
مو مهم..."
العطش الذي تحدث عنه الشاعر عطشة للمعرفة ، للحب ، للحياة ولحضن الام والاب... عطشه لمفردات الحياة الطبيعية... فليس من السهل ان تجرب اليتم في طفولتك...سواء عن طريق "الموت" الذي اخذ الاب بعيدا ...او الهجر...الذي اخذ الام الى حياة اخرى ... ليس سهلا ان تحيا مع جد وجدة ...... وكأن الطفل عاش الحياة من آخرها ... فالطفولة التي اتسمت بالشقاوة لم تكن طفولة حقيقية بقدر ما كانت مشاكسة لهذه الحياة...
هزاريات على اغصان القلب وما بعدها...جانب اخر للشاعر.. قلبه الذي يحن للحب... وللاخر...للمرأة الحلم...في قصائد الديوان في نصفه الاخر كنت اظن انني سأقرأ عن تجربة عشق رائعة... لكني قرأت حزنا عميقا... اختلط به الوطن...بالخذلان ...رغم ان المشاعر كانت حاضرة لكنها مشاعر كابية ...وهذا ما اكدته بعض العناوين مثل "برد الروح".."اخ يا حوا"، خبز حاف الخيال..
"قلبي عطش دهري بعمر الغايبين
والظمأ جواتي طفل من طين
يابس تشظى ع التراب
يركض مبعثر باليتم
فاتح شقوقه بهم
يوصل للسراب..."  
هذا قلب مهما اعطيته من حب لن يرتوي لانه عاش الضمأ في طفولته ...تماما كأي علامة فارقة تغلف حياتنا تماما كالغربة، والفقد... وكثير من المشاعر التي تحز قلوبنا في الطفولة وتبقى مهما كبرنا تشكل ملامح القلب ...    وينك ؟ 
   معروف ويني يا وطن .... ما دمت سوري ما إلي عنوان... 

رغم انني لم اتابع نتاج الشاعر في رحلته من وطنه حتى اللجوء ... لكني وجدت الحزن يغلف هذه القصائد... تختلط بها المشاعر... حتى تساءلت هل كان الشاعر يبحث عن وطنه في المرأة .. وكأن القلب المكلوم مما حدث في الوطن يشعر بيتم جديد ... ويحتاج عناق يبعد الوحشه عنه...

كنت اتمنى لو استطيع ان اعطي الديوان حقه لكن هذا لا يتسنى بمقالة او حتى عدة مقالات ...لكني آثرت ان امر على اجزاء الديوان بالقليل لا ترك للقارئ اكتشاف الدهشة والبحث في ثنايا الكلمات عن شاعر "مختلف" لا يضاهيه من جيله احد ... ولكنه مغبون ولا ادري ان كان ذلك لاستخدامه الدارجة في كثير من انتاجه الشعري؟ ام لانه شاعر استطاع ان يدخل باب الشعر بمسافة ربع قرن من القراءة كما صرح بذلك الشاعر نفسه ... كثيرة الاسباب التي تجعل الافضل يختبئ خلف ظلالة من الاعمال الاقل ابداعا

الديوان رائع ومختلف كونه كتب بالدارجة لكنها دارجة ارتقت الى الشعر الصافي...شعر خالص تقرأه على مستويات عدة ... وحسب ثقافة القارئ وعمق قراءته  فمن السهل ان تمر على صورة مثل "أعطونا ملامح أنبيا..ت نفوت نتخبا بشجر..ويحز مفرق روسنا منشار وريح..." دون أن تربطها بقصة النبي... او تمر على 
اسماء الصوفين..او على كثير من الرموز التي تنتشر في ارجاء الديوان...
قراءة الديوان تحدي للقارئ البسيط مثلما هي تحدي للقارئ المثقف  فكثير من الصور تبدو كما لو كانت رأس جبل الجليد الذي سيجر خلفه الاف الحكايات والصور في عمق الذاكرة  من بدء الخليقة وحتى اللحظة 
الراهنة... 

اخيراً... كل الشكر للشاعر شاهر خضرة على اهدائه  وعلى هذا الشعر المعجون بالجمال والانسانية

الاثنين، 1 أكتوبر 2018


قراءة في نص (لا شيء يمسكني ) للشاعر خالد الجبور

لا شيء يمسكني
==============
تلمّسْتُ وجودي
لففتُ خيوط الريح على أصابعي
جمعتُ الحرش القريب بين عيني
وتركت طيوره ترفرف في قلبي
ثم ماذا ؟!
آه ، تذكرت مطر الأمس
وها أنا أصغي إلى موسيقاه .
^^^^^^
لست هنا أو هناك
لا قدم لي على الأرض
لا جناح لي في السماء
ولا زعنفة في الماء
في طيّ الغيب سريتُ
بلا رؤى أو ذكريات .
^^^^^^
لا شيء يمسكني
على السراط أعبر يومي
السراط سلك رفيع بين النهار والليل
من تحته أسمع هدير النور والظلام
تلك هي أيامي القديمة
أيامي الشبحية التي تشبهني
لا فرق إن سقطت يميناً أو شمالاً
لأنني سأهوي في النهر نفسه
حيثُ لا مرج بين الماء والماء
وحيث لا شيء سوف يمسكني
***
على السراط أعبر يومي ..
^^^^^^^
الكائنات التي تطير فكرةُ الأشجار
قال الوحيد لقلبه الذي طار على الغصون
فجاوبه الذي يُقيمُ في الريح :
-
العصافير قلوب إذن
والنحل والفراش نبضها النشوان .
^^^^^^
حطّ عصفورٌ على كتفي
-
لستُ غصناً ولا صخرة
أنا حارسُ الرياح والأشجار
فكيف انخدعتَ بالسكون ؟!


ليس من الصعوبة بمكان أن تضع عدة اسباب تجعلك تحب نصاً لكن أحيانا تجد صعوبة في تحديد اي من تلك الاسباب هو الاقوى لمحبتك لنص دون آخر، لكن في نص "لا شيء يمسكني" استطيع أن اقول ان ما "امسكني" بالنص هو ذلك الشعور الذي يشبه نظرك في ماء عميق لكنه يعكس ملامحك....
اتذكر أنني عنونت قراءة في اعمال خالد الجبور القصصية ب "فضاءات الفقد  " ولعل ذلك الفقد كان وليد الغربة والشعور الموحش بالبعد عن البلاد، بعكس اعماله الشعرية التي كتبت بعد عودته الى الوطن، فهي نصوص ذات مساحة واسعة في الروح يعززها الشعور بالانتماء، وبصرف النظر عن موضوع النص فهي نصوص تملك ذلك الدفء والحميمية التي يشعر بها الانسان قرب البحر، رغم انها نصوص نستطيع ان نصفها بأنها "خضراء" تحاول ان تتماهى مع الطبيعة وتصغي اليها بل وتتبادل معها الادوار...
في نص "لا شيء يمسكني"... ورغم أن الاسم ينبئ عن "الحرية" بمعناها الاوسع إلا انها ليست حرية بالمعنى المتعارف عليه والتي يظن البعض انها تلك التي تحارب القيود بجميع اشكالها وتتمرد عليها، دون الانتباه ان الحرية في معناها الاوسع هي التماهي مع ماحولك من الكائنات بحيث تصبح المعادلة انتماء واكتمال وليس تضاد وتمرد، هي حرية من نوع خاص ... تشبه ما يشعر به الطائر في السماء، وما يشعر به السمك بالماء ... وهذا النوع من الحرية لا يفقهه الكثيرون،   تماما كالفرق بين ما هو طبيعي وما هو صناعي وردة تهب عبيرها واخرى مسجونة في شكلها المحنط...
افتتح النص بعبارة "تلمست وجودي" وهذا ما ينبئ عن رغبة الشاعر بمعرفة ما حوله... بمعرفة تلك الحدود التي سيفندها بعد قليل .... "لففت لريح على اصابعي"  " جمعت الحرش القريب بين عيني" و"تركت طيوره ترفرف في قلبي" كلها مفردات البلاد الاجمل تلك التي تفتح القلب والروح لما هو اكبر من كل القيود...وكلها خطى نحو الانعتاق والتماهي مع الكون .... الكون الذي انتشر في كامل النص عبر مفردات عديدة "الريح، المطر، الموسيقى، الطيور، الارض ، السماء / الماء...الخ....
 وهذه الفقرة كانت خطوة هامة لتبدأ الحرية بتلمس وجودها كما تلمس الشاعر وجوده في هذا النص، ليتقدم خطوة اعمق "لست هنا أو هناك" اذا اين الشاعر ان لم يحلق بالهواء او يسبح بالماء ؟ ..."في طي الغيب سريت" حرا من كل شيء "بلا رؤى" او "ذكريات" كأنه يحرر نفسه روحيا بعد ان حررها جسديا عبر انتفاء وجودها الفعلي في جناحي الكون "الفضاء" و "الماء"
 و سراط الشاعر ليس كصراط المؤمن الذي يفصل بين جنه ونار، وربما لهذا اختار ان يكتبها ب"السين" ورغم ان المعنى واحد الا ان اختياره السين كان موفقا في رآيي ، "السراط سلك رفيع بين النهار والليل"  وهنا ورغم ان الشاعر فصل نفسه عما تحته الا انه زاوج بين الليل والنهار ولم يفصلهما بل فصل نفسه عن "ايامي القديمة" و"ايامي الشبحية التي تشبهني"  وهنا حيرني قليلا هذا الوجوم المفاجئ الذي ابتعد كثيرا عن اجواء الفقرة الاولى والفقرة التالية .... وكأنها اي الفقرة كانت كالسراط ايضا بين ما قبلها وما بعدها الا انها بطريقة ما تنتمي للنص كما ينتمي الابيض للاسود والنورللظلام...فكل تضاد هو تكامل وانسجام لمن يرى....


ورغم ان كلمة "الوحيد" قد تعطي للنص بعض الشجن الا انني هنا اراها  صيغة "للجمع" للتماهي مع الكائنات بدليل هذا الحوار المتبادل "قال الوحيد" ..."فجاوبه الذي" .... وهذا الحوار الجميل الذي اصغى له الشاعر بمحبة ونقله بعناية وتركه للقارئ كما لو انه عبير لا يرى لكنه يحتل اعماقنا...

بالتأمل بالصورة وانعام النظر في "الكائنات التي تطير" سنرى ما كنا نتحدث عنه من حرية الانتماء والتماهي تلك التي خلصت الكائنات من الحدود التي تقلص وجودها لتتركها كما لو كانت سابحة في الكون متبادله معه الادوار ...العصافير قلوب... الفراش نبض...الوحيد الذي طار قلبه .... هل نستطيع ان نرى الشاعر ؟ الاشجار ؟ الكائنات التي تطير ؟ ام كلها اختلطت كما لو كانت جوقة واحدة لا نفصل صوت عن صوت ....
 
 ليأتي السؤال الاخير مؤكدا على هذا الوجود الحر "لا شيء يمسكني" فالسؤال "لست غصنا ولا صخرة انا حارس الرياح والاشجار... فكيف انخدعت بالسكون ؟ السؤال اتى للتأكيد وليس لانتظار اجابة ما...فالحقيقة ان العصفور لم ينخدع بالسكون فكيف لحارس الريح والاشجار وكلاهما "الريح والشجر" حركة وحياة كيف له ان يكون ساكنا كما لو كان غصنا او شجرة ؟ لولا ان العصفور ادرك هذه الحرية بل وتصرف بموجبها ...




الأربعاء، 24 مايو 2017

"أنا ويدي أصدقاء
نحمل الدقائق معنا أينما ذهبنا
نشترك أيضاً في العقارب
لكننا نتوقف إذا كان الحوار مقطوعاً
...."
  1. ...
  2. تلك اليد هي التي تترجم نبض القلب وخيباته وملله واوجاعه، هي التي ترقب الجدران والأحبة، والطرقات وتعيد ترتيب الزمن، تلك اليد ترجمان القلب وصوته الشعري...
    في ديوان (تحت الظل الكثرة) لاحمد العسم نستطيع أن نتعرف على شحصية يسكنها الشعر كهاجس وكأنها تحيا من خلاله ...ومن الاهداء الذي قدمه الشاعر الى الاستاذ حبيب الصايغ " هناك من يفتح قلبه للشمس" نستطيع أن نرى ما يعتمل في قلب الشاعر فكل كتابة هي نافذة في القلب نحو الشمس... الشمس التي تعطي الحياة والدفء والنماء وتعطي أيضا الرؤية الاوضح، وتكشف ما يخبئة النبض...
  3. في الديوان نستطيع أن نقول كما قال الشاعر

  4. "تحت ضوء خافت
    نقرأ الشعر
    من صدورنا" 


نعم ففي كثير من المقاطع نرى انفسنا وجها لوجه، في الطريق، أمام البحر، في الفندق وفي غرفة المشفى، ليس غريبا أن يكون الشاعر ترك المفردات "الفندق، المرض، قوارب" تتصدر اسماء قصائده "مفردة" بينما اعطى باقي القصائد مسميات مكونة من مقاطع، وكانه بهذا يشير الى اهمية هذه المفردات في حياته وفي شعره....
الفندق ودلالته على الاقامة المؤقته، الملل وربما الحياة كلها التي لا تتعدى اقامة وان طالت فهي قصيرة، المرض وهو وان كان في بعض القصائد مرضاً جسديا لكنه يعبر عن حكم القدر لهذه الحياة فكلنا محكوم بالمرض الاخير/ الذي يصل بنا الى نهاية الحياة، ورغم الحزن المسيطر على كثير من القصائد لكننا لا نلمح سوداوية بقدر ما نرى تأملا عميقا للحياة ...المفردة الثالثة المستمدة من واقع الحياة في الامارات "قوارب" هل هي وسيلة للهروب، للمغامرة ..ام هي درب الوصول الى مكان اخر؟؟؟

عندما اجتاز الشاعر الطريق من "رأس الخيمة الى أبوظبي" تأمل الطريق بدقة وراقب ذاته وانفعالاته ايضا....
"لا يتأمل الشارع
إلا شاعر"
لكنه لا يتأمل فقط ففي قصيدته " الطريق من رأس الخيمة الى أبوظبي" نمشي مع الشاعر في دربه نتابع " حديث الطريق الى رأسك" مثلما نرى "السائق ملح الطريق" ونقرأ ...
"الطريق يا صديقي
أسئلة وتأملات
عمران، وبيوت" وأرصفة
خيال، ووصف
وانت وحدك في صمت ولا تنام"

كثيرة هي المشاعر التي امتلأ بها الديوان، وكأن الشاعر بهذا الديوان اراد ان يترك قلبه يتحدث عن كل شيء بجمل شعرية مركزة، خالية من الحشو متأملة بعمق، متخذة من مفردات المكان وما يحيط به سواء اشخاص او اشجار او حتى جدران، وسيلة للبوح ورسم ما في قلب اشاعر بوضوح كما لو انه فتح قلبه للشمس، في عودة الى الاهداء الذي صدر به الشاعر ديوانه....

الاثنين، 22 فبراير 2016

قراءة في قصيدة عادل بلغيث (اغنية من اعواد الصمم)


أغنية من أعواد الصمم
--'''''''---''-----
لا أدافع عن لغتي...عن مذهبي..
كل ما حز في صدر النقد ..هو لغتي
كل ما حز رأس القلب أيضا لغتي...
سواء كتبته أنا ...أو كتبه غيري
الحبر لا يعرف الحدود ..
هو ليس البلاد..بل سماؤها
هو ليس أضواء الشوارع والمنارات والخمارات...بل ليلها
لا أدافع عن قلبي
هو ككل القلوب..،
إن مرض فإلى المستشفى
إن شفي فإلى احتمال امرأة أو قصيدة
لا أدعي أنني أحتمل الإثنتين...
فالقصيدة عندي ..آخر حقيبة تحملها حبيبتي
و قوافيها هي الأبواب المصفوعة ...و الكراسي المقلوبة..و كلاب الطين الشتوي
حين أشفق عليى دمعتي من الوقوع بينها
**

سيأتي اليوم الذي تكون فيه لغتي
على شفتي لوحدي...
وأنا أتلوها على أقرب الوجوه
بيولوجية مني ...
كل شاعر يحتضر ...يعود الى جمهور الدم
وأمسية شعر على ظهر بطانية خضراء
فلا تستعجلوا ...انعدام شعبيتي...
لا تستعجلوا قبليتي..
وحبيباتي اللواتي من شمع المخيلة..وفتيل الشقاء
لا تستعجلوا هبوبي على القناديل ..
و الخوف من وجودي في علبة سردين فارغة.
و الاعتقاد بسماع صوتي من على الميرادور المهجور..
لا تستعجلوا في تحويل منامتي الى بدلة عسكرية
وتباني الى ربطة عنق 
مازلت حيا...ومازلت أكتب كالصبي
ولا أحلم بلقب شاعر الا حين أحرر بستانا من قبضة الصمت
و انسانا من لقب الموت..
و قلبا من الورق الميت في الوحدة
*******
لا أدافع عن ثرثرتي
أنا هنا لأتكلم...
وهناك لأصلب على جذع وردة الله
مادمت هنا...
فأنا منزعج من الشبه بين المثقفين وخبازي الأعياد
والسياسيين و الأمراض الموسمية
و الفقهاء وانجراف التربة البطيء...
ومن حقي ...أن أجذب شعر خيمة الشعر
و أجعل من طاولة المقهى منبرا جامعيا
و أحرض المئذنة على القبة
اتركوني أعيش هذا الكلام الذي تقطعه الرغبة
في البكاء....كما تقطعه الرغبة في البول
لقد أحببت زهاء....زهاء ربع قلب
ومازال الحب لم يعثر على الحب
لا وجود للخفقة الصافية الا في جهنم المواساة
أو في جنة لا تملك الا غرفتين...
واحدة للنوم وأخرى لمقابلة الله
.

لا أدافع عن وحدتي
هي شمطاء...
و التصوف بها هو أن أصنع من نفسي عدة أنفس
تتسع الأشياء في ظل غياب الأشياء...
فتصير السماء طاولة..
و النجوم شموعا...
و الخيال رب البيت..
لا أدافع عن وحدتي لكنها كعلم الفلك..
أرى بها جيشا من عدسة منظار
لكنني لا أقول هذا جيش يترصدني
بل ...أقول :هذا ما في العدسة ...لهذا اليوم
^^عادل بلغيث^^

نعم هي من أعواد الصمم، لم تكن أغنية هذه القصيدة بل هي ابعد من ذلك، عادل هنا يرفع قلبه ولغته ووحدته عاليا كما لو كان القلب واللغة والوحدة مجتمعة نجمة تشع بما تريد، وتقول ما لا يستطيع كثير من الشعراء قوله والتعبير عنه ببساطة ولكن بعمق، تعودت أن اقرأ ما أحب من الادب بصوت منخفض اولا ثم بصوت عال ... صوت اقول فيه يا اصدقائي هنا ادب جميل فتعالوا معي نحييي صاحبه...

الشاعر عادل بلغيث تفوق على نفسه هنا واختلف مع ما كان يكتب سابقا وكأنه وجد طريقه وما يريد قوله، ولخصه ببضع فقرات هي كل ما يحلم به شاعرحقيقي، ولا انفي عن نفسي انني حلمت ان اكتب ما يريد عادل كتابته...

لا ادافع عن لغتي عن مذهبي، لا أدافع عن قلبي، ثرثرتي ووحدتي... هي كل ما يتبقى لنا نحن الشعراء في هذه الحياة، اللغة والقلب، وما نقول (الثرثرة) وما وصلنا اليه (الوحدة)... قرأت النص وقلت هو نص جميل ثم قرأته مرة اخرى وقلت هو نص عميق وها انا اقرأ مرة ثالثة معكم ايها القراء لكي لا يفوتكم ان تقرأوا هذه النص....

اللغة/ المذهب... وضع عادل للغته التي هي مذهبه تعريفا بسيطا لكنه صارم ولا يقبل المفاصلة (كل ما حز في صدر النقد...كل ما حز رأس القلب) أي انه يبحث عن لغة حية مشاكسة لا تقبل ان تكون لغة ميتة شبيهة بملايين القصائد التي تتغنى بمواضيع تغنى بها الناس جميعا ... فالشعر ان لم يكن حياً وحقيقيا فما جدواه ؟... ما جدوى ان اصف المرأة بالقمر ملايين المرات ولا استطيع أن انقل ما يحمله انعكاس عينيها من صميم فؤادي !!

"سواء كتبته أنا او كتبه غيري" نعم ادرك عادل جيدا ان اللغة الحية لا تنتمي لكاتبها فقط ولهذا تابع "الحبر لا يعرف الحدود" مدركا ما هية الحبر الذي يقصده فهو "ليس البلاد بل سماؤها.. ليس اضواء الشوارع والمنارات والخمارات بل ليلها... وهنا اتوقف عند هذا الوصف الدقيق والعميق ... فالسماء ابعد من الحدود الضيقة للبلاد... لنفاجأ بوصف اخر اجمل واكثر انسانية حيث جمع "الشوارع" التي تضم كل اصناف البشر في حركتهم الدائمة سواء الذين يعرفون طرقهم او الذين يبحثون عن هدف ما... "المنارات" توصيف ايضا لنوعية من البشر يعرفون طريقهم جيدا بل وينيرون الطريق للاخرين بينما "الخمارات" تضم المتعبين والتائهين وانواع اخرى من البشر اتى ذكرهم لتكتمل الصورة الانسانية التي يريدها للغة هدفا وطريقا ولكن ليست اي لغة بل تلك "اللغة التي تحز رأس القلب" بحر لا يذكر اضواء تلك الاماكن بل "ليلها" وكلنا يعلم اننا في الليل اكثر صدقا مع الذات واكثر شقاء بقلوبنا وكأننا بالليل نعري دواخلنا ....

لينتقل في الفقرة الثانية .."لا ادافع عن قلبي" فهو ككل القلوب ماديا يمرض ومعنويا يكتب ويعشق... لكنه يعترف " لا ادعي انني احتمل الاثنتين" فهل يعوض العشق الشعر ام هل يعوض الشعر العشق ؟؟ ام ان كلاهما الم ما.. ؟؟ لنستمع لعادل كيف يجمع بينهما "القصيدة عندي اخر حقيبة تحملها حبيبتي" اي ان القصيدة تنمو من المعاناة ومن الفقد "وقوافيها" هي الابواب المصفوعة... اي الحدة والخصام والانفصال... "الكراسي المقلوبة... وكلاب الطين الشتوي حين اشفق على دمعتي من الوقوع بينها... " هنا يقربنا عادل من قلبه الذي يعطينا صورته جيدا ... فهو قلب ككل القلوب لكنه "يقاوم" حين يشفق على الدمعة من الوقوع بين  تلك الاشياء... وكأنه يقول رغم كل ما يبتلى به هذا القلب سيظل صامدا...

وهذا بالضبط ما بدأ به المقطع التالي "سيأتي اليوم الذي تكون فيه لغتي على شفتي لوحدي" اي انه يعد القلب واللغة بالوصول الى مراده ... لكن متى ؟؟ المقطع التالي مقطع حزين... وكأننا لا نبلغ الحكمة الا متأخرين وكان الحياة تسخر منا فهي تعطينا نفسها حين تسرق منا الزمن... فكرت كثيرا لماذا اراد عادل ان يتلو لغته "في اليوم الذي سيأتي" على اقرب الوجوه "بيولوجية" اي لماذا اختار صلة الرحم ؟ ولكن الكلمات التالية تذكر بشيء من التفصيل ما يصل اليه الشاعر... او الانسان بالمجمل... لكنه يخص "الشاعر" كونه اختار اللغة ...لغته الخاصة...

"كل شاعر يحتضر يعود الى جمهور الدم" و "البطانية الخضراء" وهنا ما يلون هذا المقطع ليس الاخضر والاحمر لون الدم بل تلك النهايات الحزينة التي تقلق الشاعر ولا تقلقه ... فهو يقترب من ذكر الموت بشيء من التفصيل وكأنه فكر به مئات المرات واستطاع ان يرى شكله جيدا وينعم النظر فيه اذ يقول "لا تستعجلوا انعدام شعبيتي" بنسيان جمهوره له ربما ...و "لا تستعجلوا قبليتي" ولكنه يذهب عميقا لما هو ابعد من النهاية "هبوبي على القناديل" و" وجودي في علبة سردين فارغة" و " الاعتقاد بسماع صوتي من على الميرادور المهجور" و "تحويل منامتي الى بدلة عسكرية" و"تباني الى ربطة عنق" .... وكأنه يريد ان ينظر خلفه من بعد الموت ليرى ما عليه الحال من بعده لكنه يستدرك انه لم يمت بعد ليقول ..."مازلت حيا ومازلت أكتب كالصبي"  وهذا تواضع من الشاعر الذي يحلم بلقب شاعر ."حين أحرر بستانا من قبضه الصمت.. وانسانا من لقب الموت وقلبا من الورق الميت في الوحدة" اذا الشاعر يدرك جيدا ما هو الشعر كما ادرك جيدا ما هي اللغة فالشاعر يحلم بأن يكون حقيقيا مبدعا حين يحرر "بستانا" و "انسانا" وقلبا" وهو حلم كثير من الشعراء الا ان  قله قليلة من تدرك ذلك وتسعى اليه.... فليس ابدع ولا اصدق ولا اجمل من هذا الحلم لشاعر يدرك جيدا ما يريد....


لينتقل الى المقطع الاخير ليعود الى نغمته الاولى "لا ادافع.." فبعد ان بين ما يريد باللغة والقلب يأتي ليذكر "الثرثرة" واختيار المفردة يدل على قلق الشاعر على حلمه وعلى قدرته في الوصول الى ذلك الحلم الصعب الذي لا يحلم به الا  كل شاعر حقيقي ..."انا هنا لاتكلم... وهناك لاصلب... " وكأنه يدرك ان اللغة او "الكلمة" مسؤولية الشاعر الحقيقي ليس هنا فقط بل هناك .....
ليبين لنا ما يريد ان "يتكلم به" انا منزعج من "الشبه" بين اصناف من البشر بيينهم بوضوح فذكرهم بصفاتهم دون رمزية او مداراة "المثقفين...والسياسين..والفقهاء..." وهم كل اسباب الخراب الذي يراه جيدا ويعيه ويعرف ان لغته تريد ان تحاربه بقوة لتحرر البستان والانسان والقلب من تلك الوحول التي اوجدها الشبه بين هؤلاء و "خبازي الاعياد...الامراض الموسمية ...انجراف التربة البطيء" ويدافع عن نفسه اذ يهاجمهم "ومن حقي" وهنا نستطيع ان نسمع بوضوح صوت عادل الغاضب والحزين والمليء بالقهر من كل ما حوله وكأنه يحذرنا من لغته القادمة ... فيصرخ بمن حوله "اتركوني" ...ليكمل غضبه او ثورته ... فهو رغم كل ذلك لا زال يشعر بالقهر من يقينه "مازال الحب لم يعثر على الحب" وهو هنا يعود للقلب في لغته او اللغة الناطقة بنبض القلب....ليخبرنا بما يحزنه اكثر "لا وجود للخفقة الصافية الا في جهنم المواساة ...او في جنه ..." وكأنه فقد الامل من ايجاد الحب الحقيقي الذي لا تخالطه شفقة ولا تأتي به النهاية ....

لينتقل الى مقطعه الاخير "لا ادافع عن وحدتي"  وهو يدرك تماما ان الوحدة هي التي ارته ما لم يكن يرى...نعم هي "شمطاء" لو كانت بديلا عن الحب الحقيقي والخفقة الصافية ... لكن لا بأس بها اذ وجد لها حلا "التصوف بها..." وهنا يطلعنا عادل على وحدته التي حولها من "كريهة" الى أفق فيه"تتسع الاشياء في ظل غياب الاشياء" وهنا في هذه الفقرة وحدها "تتسع الاشياء في ظل غياب الاشياء" اجد تعبيرا رائعا عن الوحدة بكلمات موجزة ولا عجب ان سبقتها كلمة "التصوف" فتنقلب الاشياء الى حقائق اخرى فالسماء طاولة والنجوم شموع والخيال رب البيت... فالوحدة "كعلم الفلك" ارى بها جيشا من عدسة منظار لكني لا اقول هذا جيش يترصدني"... وكأنه يقول لنا نعم اكتشفت الكثير الكثير في هذه الوحدة لكني لهذا اليوم او حاليا ...  اقول " هذا ما في العدسة لهذا اليوم" ... وهنا اقول هي القصيدة القصيدة الجميلة التي نظرنا منها كما ننظر من عدسة منظار لنرى ما لا يرى ونراه جيدا بتفاصيل مدهشة وعميقة ... ولكنه في فقرته الاخيرة كانه يغلق لنا صندوق الدنيا ويتركنا نفكر بكل ما جاء فيه ...هل هو حلم ام هو غير ذلك... عادل في قصيدته قدم نفسه باجمل ما يكون التقديم ولولا انني اردت ان اترك للقارئ ابعادا اخرى يبحر منها الى عمق الكلمات لكتبت اكثر من ذلك ..عادل تفوق على نفسه في هذا النص والنصوص التالية ستكون اجمل لانه وقف بشكل ثابت على عتبه الشعر وعتبه اليقين معا حين عرف ما يريد وادركه جيدا...

الخميس، 30 مايو 2013

(استضافة) الشاعر عبد المحسن يوسف


(كنت في غرفتي هادئة .. لكن قصيدة عبد المحسن طرقت بابي فماذا قالت وكيف نلتقي بالشعر الجميل الذي ينتجه كاتب جميل .... اتابع عبد المحسن يوسف الشاعر الجميل منذ ان تعرفت على كتاباته فعرفت روحا رائعة يفيض الشعر من بين اصابعها كما يفيض ماء فرسان جزيرته التي جعلنا نعشقها، عبد المحسن في الشعر كما في السرد يمتلك روحه الخاصة، تلك الروح الصافية الجميلة التي هذبتها التجربة واخذت بيدها الحياة القاسية بداية من سلال صيد السمك وحاليا بصيد القلوب التي تعشق الكلمة في تجلياتها.
هنا اتوقف قليلا عند نص (استضافة) لعبد المحسن يوسف لاقرأه بصوت عال كما احب ان افعل مع النصوص التي تستوقفني اصافحها وأتأملها، نص جمع بين السر والشعر والفلسفة نص يأخذنا برفق نحو ما يريد لنا الشاعر ان نرى.

 
كنتُ في غرفتي هادئًا
بانتظارِ الرقادْ
طُرِقَ البابُ
ثمّة َ شخصٌ يلحُّ !
طُرِقَ البابُ
ما آنَ صُبْحُ !!
طُرِقَ البابُ
لكنّني لم أجبْ .
:::::


في المشهد الافتتاحي يبدأ عبد المحسن نصه بمشهد لا نجد صعوبة في استحضارة فانتظار الرقاد بهدوء يشي بروح عبد المحسن الجميلة والمسالمة لكن... طرق الباب/ثمة شخص..طرق الباب/ما آن صبح.. طرق الباب/لم اجب. ..تكرار الطرق ثلاث مرات كان مقصودا وكذلك المشهد المقلوب واعني به ان ردود الفعل والكلمات منطقيا كانت يجب ان تأتي هكذا (طرق الباب لم اجب، ما آن صبح ، ثمة شخص يلح) لكن عبد المحسن وبشكل مقصود قلب المشهد وبدأه من النهاية فثمة شخص يلح قبل ان ينتبه للزمان ولرد فعله على هذا الطرق ترى لماذا ؟؟؟

اختفى الطَّرْقُ ...
عادْ .
نهضتُ من الخوف ِ
منطفئًا كالرمادْ
 

في النص موسيقى لا تخفى على احد، فيها روح متحركة، قدمت السرد في اطار حركي جميل لا ندركه إلا بالرشاقة التي نقرأ بها النص ونتفاعل مع احداثه، في هذا المقطع قدم لنا عبد المحسن صورة غير مألوفة لكنها رائعة حين جعل الخوف يطفئة كالرماد، رأيت رجلا يعرف في صميم روحه ما ينتظره لهذا فجأة يتلاشى كما لو كان غبارا، الصورة استوقفتني كثيرا هل هي امنية ام خوف حقيقي من المواجهة ام رغبة عارمة في الانطفاء لاجل البعث من جديد..!

 

 

 

مشيتُ قليلاً ..
قليلاً مشيتُ .
تردّدْتُ حينًا من الخوف ِ
سرْتُ
ت ب ا ط أ تُ ..
حرّكتُ جذعي ..
بدوتُ نحيلاً ،
نحيلاً بدوتُ .
توقفتُ من هلع ٍ مُضْمَر ٍ
ومن هلع ٍ واضح ٍ قمت ُ، سرتُ ...
وحين خطوتُ ..
ارتجفتُ ..

كذلك ، وارتجفتْ ركبتايْ .
وغمغمتُ في حيرتي ،
ثم فاضَتْ يدايْ .
مشيتُ ..
سمعتُ بقلبي ارتجافًا ..
صمَتُّ

 

هذه الحركة التي تشبه رقصة ما،  تتقدم وتتأخر، تستدير تسرع وتبطئ، هذه الكلمات لم تكتب بل امليت على شاعرنا هنا فكتبها كما سمعها وكانه يقدم لنا معزوفة تناغمت فيها الحركة والسكون الخطوة والايقاع هذا المقطع كتب بذكاء كبير تناغم به الحرف مع وقعه مع الحركة الخارجية وكذلك الاحساس الداخلي...

 
تجاسرتُ ..
حين رفعتُ العقيرة َ مضطربًا
خائفًا : ـ مَنْ ببابي ؟!
أجَبْني الذي في الظلامْ :
ـ أنا .. أنت َ
أنتَ .. أنا
فافتح ِ البابَ ..
بابُكَ ـ يا صاحبي ـ هوَ بابي .
وألْحَحْتُ في طرح ِ أسئلتي
وإذا بي ..
سمعتُ بصوت ِ الذي ردَّ صوتي ..
فصحتُ : أأنتَ .. أنا ؟!
قالَ لي : وأنا أنتَ ..
فافتحْ !!

هذا المقطع والذي بدأ فيه الحدث يتشكل بعد التقدمة السردية الجميلة هدأت فيه الحركة والنغم اصبح اكثر بطا وكأن الصوت انخفض فيه لنستطيع الانتباه لما يحدث والتركيز على هذه المواجهة المعاتبة بين (انا) و(انت) ، أنت التي هي أنا...(بابك يا صاحبي هو بابي) ....والباب هو وصول ، هو خروج الشخصية من هدوئها الاول الذي كانت تستعد فيه للنوم الى الخوف والقلق والحيرة التي سارت بها نحو الباب...الشخصية انتقالت عبر الخطوات الى عوالم متعددة ومستويات مختلفة في معرفة الذات ومراقبتها.... الصوت اول ادراك الاخر المنعكس من الذات ...ورغم أن الحوار مقتضب  (بابُكَ ـ يا صاحبي ـ هوَ بابي .) و (وألْحَحْتُ في طرح ِ أسئلتي ) حيث اقتصر على (الباب) و(الاسئلة)  بكل الدلالات التي قد نسقطها على الكلمتين فالباب كما قلنا سابقا هوانتقال وهو حلقة مفصلية بين عالمين قد يكونا متناقضين تماما كالداخل والخارج وبكل ما يجره هذا التناقض من ثنائيات متعددة و (الاسئلة) وهنا اسئلة الشاعر التي لم يصرح بأي منها رغم وجوده ضمنيا بهذا السؤال المفصلي (أأنت أنا ؟؟) فماذا كانت الاسئلة وماذا كانت الاجابات التي وصلت الشاعر عبر صوته الخاص ؟؟


سئمتُ من الطرْق ِ .. فافتحْ !!
سئمتُ انتظارَ يديكَ
سئمتُ ارتجافَ أصابعكَ الناحلة ْ .
لقد سكنَ البردُ عظمي
ونامَ الظلامُ بجسمي
وداهمني الخوفُ ،
قالَ .. وأكملَ :
ـ خوفي بدا خائفًا
مُذْ تركتُ رفاقًا هنالكَ في القافلة ْ

 

سئمت من الطرق فافتح... سئمت انتظار يديك، ارتجاف اصابعك الناحلة، سكن البرد عظمي، نام الظلام بجسمي، داهمني الخوف،  هذا الترتيب (الطرق، اليد، الاصابع، البرد، اظلام، الخوف) لم يكن اعتباطيا، هو سرد لحالة تفاقمت حتى غدت انفصاما .... الطرق تحذير ومسافة تعطي للصوت اهمية، انتظار اليد اي انتظار الفعل، ارتجاف الاصابع دليل على تردد في الكتابة، اصابع انبرت لكثرة الاستخدام وتفاقم في مفاصلها البرد، البرد والظلام والخوف، حالات متوالية لجسد يحمل روحا ضاقت بكل ما حولها وتريد ان تفصل ما تعانيه لكن تتردد فلماذا يا ترى ؟؟؟

 

"خوفي بدا خائفا، منذ تركت رفاقا هنالك في القافلة"  هذه الجملة جعلتني اعود لحوار قرأته للشاعر تطرق للعديد من القضايا المفصلية في حياة الشاعر المهنية، واقصد بها تلك التي تختص بعمله الصحفي، ترى هل قصد العمل الصحفي في "رفاق القافلة" وهل الابتعاد عنها يتركه خائفا او مرتبكا ؟؟؟  هنا لم افهم الجملة جيدا حتى اعدت الحوار واعدت القراءة، ثم اصغيت جيدا للكلمات، العمل مع الكلمة يؤدي الى ذلك النوع من الفصام الذي يفصلنا عن واقعنا ويجمعنا بواقع اخر، واقع ينفتح على الذات من الداخل، العمل الصحفي بكل ما به من معاناة سواء على  الصعيد النفسي او  المهني... سواء كانت تلك القافلة ووجوده بها ايجابي او سلبي لكنها تبقى مفصلية في حياة الشاعر واحساسه بذاته...ولان الكلمة (خوفي بدا خائفا) لم تحدد طبيعة هذا الخوف هل هو خوف من مواجهة الذات ؟ من الاخر ؟ مما حدث وسوف يحدث ؟؟ القافلة كلمة كالباب والاسئلة تحمل دلالات كثيرة وتحمل مشاعر كثيرة ايضا القت بظلالها على النص وبحثنا فيما وراء الكلمات...

 


فتحتُ ..
فألفيتُني واقفًا في العراء ِ
وفي البَرْدْ ..
ألفيتني خائفًا ، ووحيدًا ..
فما مِنْ مشاة ٍ يسيرونَ ،
ـ هل جفّت ِ السابلة ْ ؟!

 

(فتحت) أي انتقلت الى المواجهة ، مواجهة الذات بكل ما تقود اليه هذه المواجهة من ذكريات وانفعالات تجعلنا وللمرة الاولى نقف أمام أنفسنا عراة (واقفا في العراء...وفي البرد...) (خائفا ووحيدا) لا توجد مواجهة صادقة وحقيقية دون  أن تلقي بنا الى صحراء قاحلة لا يوجد فيها سوى صوت الذات.... وسؤال الاخير (هل جفت السابلة) ما هو الا محاولة اخيرة للهرب من الذات ومواجهتها وكأن القصيدة انتقلت الى الجدية إلى المستوى الفلسفي الذي حاول الشاعر الهرب منه عبر انشاء اجواء جميلة وهادئة الى تلك الحركة الراقصة الى المواجهة هنا....وكأن القصيدة نهر بدأ صاخبا وجميلا لينتهي في العراء بعد اختفاء الجهات...
وحدَقْتُ في وجههِ ِ ..
وَجْهُهُ كان وجهي ،
وعيناهُ عينيَّ .
ثمّة َ خوفٌ جليلٌ
يجلّلُ نظرتَهُ مثل خوفي
تماماً كخوفي ..
ملامحُهُ كالتي خلتُ في العائلة ْ.


ليس المقصود التماثل في الشكل رغم الاصرار عليه بتعداد (الوجه، العين، الملامح) لكن التركيز على شيء اعمق من الحواء وهو البعد الذي يظهر في العين (ثمة خوف جليل يجلل نظرته مثل خوفي) لكل منا هواجسه وخوفه لكن كلمة الخوف تكررت أكثر من مرة خوف من المواجهة مع الذات وخوف في داخل الذات.. ماذا يخيف الشاعر ؟؟؟
وألفيتُ ما كان حِمْلاً ثقيلاً
على ظهره ِ ، صارَ حِمْلي
وما كانَ ظلاً ظليلاً لهُ ..
صارَ ظلِّي ..
وأبصَرْتُ طيفَ وسامتِه ِ الآفلة ْ


في هذه المواجهة حدث أمر رائع للشاعر رغم ما يحيط المقابلة من كلمات وهذا الحدث هو الذي جعل الشاعر يبتسم لاحقا، انتقال الحمل والظل ... منه (اي الطارق) إلى (الشاعر) وكلاهما واحد فكيف يحدث ذلك ؟؟ انتقال الحمل من الاخر (انت) الى (أنا) انتقال من اللاوعي الى الوعي... أحيانا يثقل علينا هم دفين وداخلي لا نعيه فيطوق حياتنا ويحد من انطلاق ارواحنا وتحررها... أن نعي خوفنا واحمالنا معناه أن نستطيع أن نواجهها ونتحرر منها، عندما تخاف من شيء تعلمه تستطيع أن تواجهة وتحرر نفسك منه، لكن عندما تواجه خوفا لا تعرف مصدره ستظل خائفا تنظر من حولك ولا تصل لنتيجة حاسمة سوى مفاقمة الخوف..... أتوقف عن جزئية اخرى قد تكون مصدرا لخوف الشاعر وهو ( أبصرت طيف وسامته الافلة) هذه الجملة تشير الى قلق من العمر ...قلق نعانيه جميعا لكني اعتقد ان الشاعر وقله من العمر بالتأكيد سينصب على أمر مشترك وهو قلقنا من الذهاب قبل أن نقول ما نريد....وربما ورود كلمة (فم) اشارة الى الكلمة ...
ابتسمتُ ..
ابتسمْ ...
وخِلْتُ ابتسامتهُ وردَ فَمْ .
وحينئذ ٍ ..
ارتميتُ عليه وقبَلتهُ في الجبينْ
وعانقتُهُ إذْ لمَسْتُ به ِ قمرًا فاتنًا
وسماءَ اليقينْ .
وشمسي ..
وأيقنتُ أنِّي على الباب ِ
كنتُ أعانقُ نفسي

اتوقف هنا عند كلمة في غاية الاهمية (سماء اليقين) اليقين من الوصول الى مواجهة مع الذات تقود الى قناعات هامة كانت منجز هذا اللقاء واهم ما فيه، سماء اليقين ...تتبعها (شمسي) نعم هي اشراق ونور يغير الحياة وما نراه فيها.... هل كانت الاستضافة مقصودة ؟؟؟ أظن ذلك ليس لانجاز قصيدة ولكن لانجاز هذا العناق الذي يعيد الذات للذات ويردم المسافة ما بين (انا) و(أنت) ليعيد للذات يقينها.... الانفصام الذي نعانيه والمسافات التي نقطعها بمعرفة الذات والاخر تترك على ارواحنا الكثير من الالم والمعاناة، لتحول حياتنا إلى زوايا مظلمة وقصص مبتورة، دائما نحاول ان نصل الى قناعة ما ونفشل لاننا دائما نبحث في المكان الخطأ والاتجاه الخطأ ... أعتقد ان ما توصل اليه الشاعر اكثر مما روته لنا قصيدته ... واعتقد ايضا ان هذه القصيدة فاتحة لقصائد عديدة ستخبرنا عن هذه المواجهة الكثير... كلنها هنا قدمت لنا بسرعة ورقة هذا العناق.. عناق الذات  على (الباب) الباب الذي جمع الأنا بالأنا......