الاثنين، 1 أكتوبر 2018


قراءة في نص (لا شيء يمسكني ) للشاعر خالد الجبور

لا شيء يمسكني
==============
تلمّسْتُ وجودي
لففتُ خيوط الريح على أصابعي
جمعتُ الحرش القريب بين عيني
وتركت طيوره ترفرف في قلبي
ثم ماذا ؟!
آه ، تذكرت مطر الأمس
وها أنا أصغي إلى موسيقاه .
^^^^^^
لست هنا أو هناك
لا قدم لي على الأرض
لا جناح لي في السماء
ولا زعنفة في الماء
في طيّ الغيب سريتُ
بلا رؤى أو ذكريات .
^^^^^^
لا شيء يمسكني
على السراط أعبر يومي
السراط سلك رفيع بين النهار والليل
من تحته أسمع هدير النور والظلام
تلك هي أيامي القديمة
أيامي الشبحية التي تشبهني
لا فرق إن سقطت يميناً أو شمالاً
لأنني سأهوي في النهر نفسه
حيثُ لا مرج بين الماء والماء
وحيث لا شيء سوف يمسكني
***
على السراط أعبر يومي ..
^^^^^^^
الكائنات التي تطير فكرةُ الأشجار
قال الوحيد لقلبه الذي طار على الغصون
فجاوبه الذي يُقيمُ في الريح :
-
العصافير قلوب إذن
والنحل والفراش نبضها النشوان .
^^^^^^
حطّ عصفورٌ على كتفي
-
لستُ غصناً ولا صخرة
أنا حارسُ الرياح والأشجار
فكيف انخدعتَ بالسكون ؟!


ليس من الصعوبة بمكان أن تضع عدة اسباب تجعلك تحب نصاً لكن أحيانا تجد صعوبة في تحديد اي من تلك الاسباب هو الاقوى لمحبتك لنص دون آخر، لكن في نص "لا شيء يمسكني" استطيع أن اقول ان ما "امسكني" بالنص هو ذلك الشعور الذي يشبه نظرك في ماء عميق لكنه يعكس ملامحك....
اتذكر أنني عنونت قراءة في اعمال خالد الجبور القصصية ب "فضاءات الفقد  " ولعل ذلك الفقد كان وليد الغربة والشعور الموحش بالبعد عن البلاد، بعكس اعماله الشعرية التي كتبت بعد عودته الى الوطن، فهي نصوص ذات مساحة واسعة في الروح يعززها الشعور بالانتماء، وبصرف النظر عن موضوع النص فهي نصوص تملك ذلك الدفء والحميمية التي يشعر بها الانسان قرب البحر، رغم انها نصوص نستطيع ان نصفها بأنها "خضراء" تحاول ان تتماهى مع الطبيعة وتصغي اليها بل وتتبادل معها الادوار...
في نص "لا شيء يمسكني"... ورغم أن الاسم ينبئ عن "الحرية" بمعناها الاوسع إلا انها ليست حرية بالمعنى المتعارف عليه والتي يظن البعض انها تلك التي تحارب القيود بجميع اشكالها وتتمرد عليها، دون الانتباه ان الحرية في معناها الاوسع هي التماهي مع ماحولك من الكائنات بحيث تصبح المعادلة انتماء واكتمال وليس تضاد وتمرد، هي حرية من نوع خاص ... تشبه ما يشعر به الطائر في السماء، وما يشعر به السمك بالماء ... وهذا النوع من الحرية لا يفقهه الكثيرون،   تماما كالفرق بين ما هو طبيعي وما هو صناعي وردة تهب عبيرها واخرى مسجونة في شكلها المحنط...
افتتح النص بعبارة "تلمست وجودي" وهذا ما ينبئ عن رغبة الشاعر بمعرفة ما حوله... بمعرفة تلك الحدود التي سيفندها بعد قليل .... "لففت لريح على اصابعي"  " جمعت الحرش القريب بين عيني" و"تركت طيوره ترفرف في قلبي" كلها مفردات البلاد الاجمل تلك التي تفتح القلب والروح لما هو اكبر من كل القيود...وكلها خطى نحو الانعتاق والتماهي مع الكون .... الكون الذي انتشر في كامل النص عبر مفردات عديدة "الريح، المطر، الموسيقى، الطيور، الارض ، السماء / الماء...الخ....
 وهذه الفقرة كانت خطوة هامة لتبدأ الحرية بتلمس وجودها كما تلمس الشاعر وجوده في هذا النص، ليتقدم خطوة اعمق "لست هنا أو هناك" اذا اين الشاعر ان لم يحلق بالهواء او يسبح بالماء ؟ ..."في طي الغيب سريت" حرا من كل شيء "بلا رؤى" او "ذكريات" كأنه يحرر نفسه روحيا بعد ان حررها جسديا عبر انتفاء وجودها الفعلي في جناحي الكون "الفضاء" و "الماء"
 و سراط الشاعر ليس كصراط المؤمن الذي يفصل بين جنه ونار، وربما لهذا اختار ان يكتبها ب"السين" ورغم ان المعنى واحد الا ان اختياره السين كان موفقا في رآيي ، "السراط سلك رفيع بين النهار والليل"  وهنا ورغم ان الشاعر فصل نفسه عما تحته الا انه زاوج بين الليل والنهار ولم يفصلهما بل فصل نفسه عن "ايامي القديمة" و"ايامي الشبحية التي تشبهني"  وهنا حيرني قليلا هذا الوجوم المفاجئ الذي ابتعد كثيرا عن اجواء الفقرة الاولى والفقرة التالية .... وكأنها اي الفقرة كانت كالسراط ايضا بين ما قبلها وما بعدها الا انها بطريقة ما تنتمي للنص كما ينتمي الابيض للاسود والنورللظلام...فكل تضاد هو تكامل وانسجام لمن يرى....


ورغم ان كلمة "الوحيد" قد تعطي للنص بعض الشجن الا انني هنا اراها  صيغة "للجمع" للتماهي مع الكائنات بدليل هذا الحوار المتبادل "قال الوحيد" ..."فجاوبه الذي" .... وهذا الحوار الجميل الذي اصغى له الشاعر بمحبة ونقله بعناية وتركه للقارئ كما لو انه عبير لا يرى لكنه يحتل اعماقنا...

بالتأمل بالصورة وانعام النظر في "الكائنات التي تطير" سنرى ما كنا نتحدث عنه من حرية الانتماء والتماهي تلك التي خلصت الكائنات من الحدود التي تقلص وجودها لتتركها كما لو كانت سابحة في الكون متبادله معه الادوار ...العصافير قلوب... الفراش نبض...الوحيد الذي طار قلبه .... هل نستطيع ان نرى الشاعر ؟ الاشجار ؟ الكائنات التي تطير ؟ ام كلها اختلطت كما لو كانت جوقة واحدة لا نفصل صوت عن صوت ....
 
 ليأتي السؤال الاخير مؤكدا على هذا الوجود الحر "لا شيء يمسكني" فالسؤال "لست غصنا ولا صخرة انا حارس الرياح والاشجار... فكيف انخدعت بالسكون ؟ السؤال اتى للتأكيد وليس لانتظار اجابة ما...فالحقيقة ان العصفور لم ينخدع بالسكون فكيف لحارس الريح والاشجار وكلاهما "الريح والشجر" حركة وحياة كيف له ان يكون ساكنا كما لو كان غصنا او شجرة ؟ لولا ان العصفور ادرك هذه الحرية بل وتصرف بموجبها ...




ليست هناك تعليقات: