السبت، 3 أغسطس 2019

فم آخر للماء...للشاعر شاهر خضرة



قراءة في "فم أخر للماء" للشاعر شاهر خضرة 

رغم أنني متابعة جيدة لمعظم نتاج الشاعر شاهر خضرة إلا أنني ما أن حصلت على "فم آخر للماء" حتى رحت اقرأه كما لو كانت قصائده كلها جديدة بالنسبة لي ... ديوان يكاد أن يغرقك بالماء بل تكاد تتقي وانت تقرأه "شتاء" متعدد النبرات ... فكلمة "ماء" "مياه" "مي" موجودة تقريبا في كل قصيدة في الديوان وان لم توجد صريحة فإنها موجودة على شكل "دموع" او "نهر" او حتى "خرير..." وكأن اختيار الاسم "فم اخر للماء" للديوان لم يتم بواسطة الشاعر بل بسلطة الشعر نفسها... الشعر الذي كان ولازال واسطة الشاعر بين قلبه والاخر... سواء الطبيعة، البشر، المرأة او حتى الموت ذلك الموت الذي حضر بقوة هو الاخر...

الفم... هو مخرج الكلمات وهو يد الشاعر التي تقود داخله في هذه الحياة، والماء هو الحياة بعينها ...تلك الحياة التي يحاول الشاعر فهمها في الديوان بأكمله ، يحاول مشاكستها احيانا وتحديها في كثير من الاحيان,, مرة ينظر اليها من السماء، ومرة من داخل الارض، فالباب لا يفتح كما كل الابواب ولكنه يفتح من الداخل، وقطرة الحليب ترضع من ورا...

هناك شعور داخلي بعيد عن الكلمات المكتوبة تربطني بما اقرأه من الشعر، وفي هذا الديوان تراوح بداية من شعور بالدهشة والاكتشاف الى شعور بالخذلان والحزن وربما الضياع في جزء اخر منه.... وكأن الروح التي تكتب تفصح آن الكتابة عما يدور في شعورها المواز للحظة الكتابة...

استطيع ان اقسم الديوان الى اجزاء بكل سهولة اجزاء تشعر ان روح الشاعر شابة تحلق عاليا تبتكر أبعاداً يحلق بها حتى لو بدت جامدة للبعض "كالحيطان البيضاء" أو مفردات الطبيعة واهمها بالنسبة للشاعر "الحجر" الذي حضر كثيرا في ثنايا الديوان وكأنه معادل للماء او هو جزء منه فقوة الماء لا تظهر الا  بوجود هذا الحجر...الحجر الذي يشكل مع التراب مفردة هامة من مفردات الطبيعة ومفرادت الشاعر نفسه...

فحنين الشاعر للبحث عن جذوره يرجع الى ما قبل البدء .. ربما الى الفكرة التي أنشأت ال"بني ادم" فالجذور "الشروش" التي تشكل مفردة اخرى من مفرادت هذا الديوان تحضر لتشير للنشأة او للعلاقة ما بين الانسان والتراب ... علاقة صمود وحياة...

 حلق الشاعر عليا في لغته الشعرية بالدارجة السورية حتى جعلها وبكل يسر تجاريه في تجلياته الصوفية وفي بحثه عن معنى للوجود...  فالشاعر اوجد سونيتاته الخاصة به تلك التي لن تمل منها لو قرأتها عدة مرات ففي كل مرة ستجد ما يجذبك اليها...
اتذكر حين التقينا بالشاعر ضمن جلسة بعد امسية شعرية، قرأ علينا "ذيب الشلايا" واتذكر انني اصبت بالدهشة والذهول من هذا اللغة الجميلة والشعر الصافي والتبادل السلس ما بين الدارجة والفصحى واتذكر انني استغربت جدا من عدم الكتابة عن الديوان بشكل مفصل ... فهذه التجربة غاية في الجمال وتستحق ان يكتب عنها الكثير وان تدرس بشيء من التفصيل...
"العطشان دوم هواجسو كثيرة ..
مناماتو كلا ميّ
صافية
زرقة
خضرا
عكرة
مو مهم..."
العطش الذي تحدث عنه الشاعر عطشة للمعرفة ، للحب ، للحياة ولحضن الام والاب... عطشه لمفردات الحياة الطبيعية... فليس من السهل ان تجرب اليتم في طفولتك...سواء عن طريق "الموت" الذي اخذ الاب بعيدا ...او الهجر...الذي اخذ الام الى حياة اخرى ... ليس سهلا ان تحيا مع جد وجدة ...... وكأن الطفل عاش الحياة من آخرها ... فالطفولة التي اتسمت بالشقاوة لم تكن طفولة حقيقية بقدر ما كانت مشاكسة لهذه الحياة...
هزاريات على اغصان القلب وما بعدها...جانب اخر للشاعر.. قلبه الذي يحن للحب... وللاخر...للمرأة الحلم...في قصائد الديوان في نصفه الاخر كنت اظن انني سأقرأ عن تجربة عشق رائعة... لكني قرأت حزنا عميقا... اختلط به الوطن...بالخذلان ...رغم ان المشاعر كانت حاضرة لكنها مشاعر كابية ...وهذا ما اكدته بعض العناوين مثل "برد الروح".."اخ يا حوا"، خبز حاف الخيال..
"قلبي عطش دهري بعمر الغايبين
والظمأ جواتي طفل من طين
يابس تشظى ع التراب
يركض مبعثر باليتم
فاتح شقوقه بهم
يوصل للسراب..."  
هذا قلب مهما اعطيته من حب لن يرتوي لانه عاش الضمأ في طفولته ...تماما كأي علامة فارقة تغلف حياتنا تماما كالغربة، والفقد... وكثير من المشاعر التي تحز قلوبنا في الطفولة وتبقى مهما كبرنا تشكل ملامح القلب ...    وينك ؟ 
   معروف ويني يا وطن .... ما دمت سوري ما إلي عنوان... 

رغم انني لم اتابع نتاج الشاعر في رحلته من وطنه حتى اللجوء ... لكني وجدت الحزن يغلف هذه القصائد... تختلط بها المشاعر... حتى تساءلت هل كان الشاعر يبحث عن وطنه في المرأة .. وكأن القلب المكلوم مما حدث في الوطن يشعر بيتم جديد ... ويحتاج عناق يبعد الوحشه عنه...

كنت اتمنى لو استطيع ان اعطي الديوان حقه لكن هذا لا يتسنى بمقالة او حتى عدة مقالات ...لكني آثرت ان امر على اجزاء الديوان بالقليل لا ترك للقارئ اكتشاف الدهشة والبحث في ثنايا الكلمات عن شاعر "مختلف" لا يضاهيه من جيله احد ... ولكنه مغبون ولا ادري ان كان ذلك لاستخدامه الدارجة في كثير من انتاجه الشعري؟ ام لانه شاعر استطاع ان يدخل باب الشعر بمسافة ربع قرن من القراءة كما صرح بذلك الشاعر نفسه ... كثيرة الاسباب التي تجعل الافضل يختبئ خلف ظلالة من الاعمال الاقل ابداعا

الديوان رائع ومختلف كونه كتب بالدارجة لكنها دارجة ارتقت الى الشعر الصافي...شعر خالص تقرأه على مستويات عدة ... وحسب ثقافة القارئ وعمق قراءته  فمن السهل ان تمر على صورة مثل "أعطونا ملامح أنبيا..ت نفوت نتخبا بشجر..ويحز مفرق روسنا منشار وريح..." دون أن تربطها بقصة النبي... او تمر على 
اسماء الصوفين..او على كثير من الرموز التي تنتشر في ارجاء الديوان...
قراءة الديوان تحدي للقارئ البسيط مثلما هي تحدي للقارئ المثقف  فكثير من الصور تبدو كما لو كانت رأس جبل الجليد الذي سيجر خلفه الاف الحكايات والصور في عمق الذاكرة  من بدء الخليقة وحتى اللحظة 
الراهنة... 

اخيراً... كل الشكر للشاعر شاهر خضرة على اهدائه  وعلى هذا الشعر المعجون بالجمال والانسانية

ليست هناك تعليقات: