الخميس، 30 مايو 2013

(استضافة) الشاعر عبد المحسن يوسف


(كنت في غرفتي هادئة .. لكن قصيدة عبد المحسن طرقت بابي فماذا قالت وكيف نلتقي بالشعر الجميل الذي ينتجه كاتب جميل .... اتابع عبد المحسن يوسف الشاعر الجميل منذ ان تعرفت على كتاباته فعرفت روحا رائعة يفيض الشعر من بين اصابعها كما يفيض ماء فرسان جزيرته التي جعلنا نعشقها، عبد المحسن في الشعر كما في السرد يمتلك روحه الخاصة، تلك الروح الصافية الجميلة التي هذبتها التجربة واخذت بيدها الحياة القاسية بداية من سلال صيد السمك وحاليا بصيد القلوب التي تعشق الكلمة في تجلياتها.
هنا اتوقف قليلا عند نص (استضافة) لعبد المحسن يوسف لاقرأه بصوت عال كما احب ان افعل مع النصوص التي تستوقفني اصافحها وأتأملها، نص جمع بين السر والشعر والفلسفة نص يأخذنا برفق نحو ما يريد لنا الشاعر ان نرى.

 
كنتُ في غرفتي هادئًا
بانتظارِ الرقادْ
طُرِقَ البابُ
ثمّة َ شخصٌ يلحُّ !
طُرِقَ البابُ
ما آنَ صُبْحُ !!
طُرِقَ البابُ
لكنّني لم أجبْ .
:::::


في المشهد الافتتاحي يبدأ عبد المحسن نصه بمشهد لا نجد صعوبة في استحضارة فانتظار الرقاد بهدوء يشي بروح عبد المحسن الجميلة والمسالمة لكن... طرق الباب/ثمة شخص..طرق الباب/ما آن صبح.. طرق الباب/لم اجب. ..تكرار الطرق ثلاث مرات كان مقصودا وكذلك المشهد المقلوب واعني به ان ردود الفعل والكلمات منطقيا كانت يجب ان تأتي هكذا (طرق الباب لم اجب، ما آن صبح ، ثمة شخص يلح) لكن عبد المحسن وبشكل مقصود قلب المشهد وبدأه من النهاية فثمة شخص يلح قبل ان ينتبه للزمان ولرد فعله على هذا الطرق ترى لماذا ؟؟؟

اختفى الطَّرْقُ ...
عادْ .
نهضتُ من الخوف ِ
منطفئًا كالرمادْ
 

في النص موسيقى لا تخفى على احد، فيها روح متحركة، قدمت السرد في اطار حركي جميل لا ندركه إلا بالرشاقة التي نقرأ بها النص ونتفاعل مع احداثه، في هذا المقطع قدم لنا عبد المحسن صورة غير مألوفة لكنها رائعة حين جعل الخوف يطفئة كالرماد، رأيت رجلا يعرف في صميم روحه ما ينتظره لهذا فجأة يتلاشى كما لو كان غبارا، الصورة استوقفتني كثيرا هل هي امنية ام خوف حقيقي من المواجهة ام رغبة عارمة في الانطفاء لاجل البعث من جديد..!

 

 

 

مشيتُ قليلاً ..
قليلاً مشيتُ .
تردّدْتُ حينًا من الخوف ِ
سرْتُ
ت ب ا ط أ تُ ..
حرّكتُ جذعي ..
بدوتُ نحيلاً ،
نحيلاً بدوتُ .
توقفتُ من هلع ٍ مُضْمَر ٍ
ومن هلع ٍ واضح ٍ قمت ُ، سرتُ ...
وحين خطوتُ ..
ارتجفتُ ..

كذلك ، وارتجفتْ ركبتايْ .
وغمغمتُ في حيرتي ،
ثم فاضَتْ يدايْ .
مشيتُ ..
سمعتُ بقلبي ارتجافًا ..
صمَتُّ

 

هذه الحركة التي تشبه رقصة ما،  تتقدم وتتأخر، تستدير تسرع وتبطئ، هذه الكلمات لم تكتب بل امليت على شاعرنا هنا فكتبها كما سمعها وكانه يقدم لنا معزوفة تناغمت فيها الحركة والسكون الخطوة والايقاع هذا المقطع كتب بذكاء كبير تناغم به الحرف مع وقعه مع الحركة الخارجية وكذلك الاحساس الداخلي...

 
تجاسرتُ ..
حين رفعتُ العقيرة َ مضطربًا
خائفًا : ـ مَنْ ببابي ؟!
أجَبْني الذي في الظلامْ :
ـ أنا .. أنت َ
أنتَ .. أنا
فافتح ِ البابَ ..
بابُكَ ـ يا صاحبي ـ هوَ بابي .
وألْحَحْتُ في طرح ِ أسئلتي
وإذا بي ..
سمعتُ بصوت ِ الذي ردَّ صوتي ..
فصحتُ : أأنتَ .. أنا ؟!
قالَ لي : وأنا أنتَ ..
فافتحْ !!

هذا المقطع والذي بدأ فيه الحدث يتشكل بعد التقدمة السردية الجميلة هدأت فيه الحركة والنغم اصبح اكثر بطا وكأن الصوت انخفض فيه لنستطيع الانتباه لما يحدث والتركيز على هذه المواجهة المعاتبة بين (انا) و(انت) ، أنت التي هي أنا...(بابك يا صاحبي هو بابي) ....والباب هو وصول ، هو خروج الشخصية من هدوئها الاول الذي كانت تستعد فيه للنوم الى الخوف والقلق والحيرة التي سارت بها نحو الباب...الشخصية انتقالت عبر الخطوات الى عوالم متعددة ومستويات مختلفة في معرفة الذات ومراقبتها.... الصوت اول ادراك الاخر المنعكس من الذات ...ورغم أن الحوار مقتضب  (بابُكَ ـ يا صاحبي ـ هوَ بابي .) و (وألْحَحْتُ في طرح ِ أسئلتي ) حيث اقتصر على (الباب) و(الاسئلة)  بكل الدلالات التي قد نسقطها على الكلمتين فالباب كما قلنا سابقا هوانتقال وهو حلقة مفصلية بين عالمين قد يكونا متناقضين تماما كالداخل والخارج وبكل ما يجره هذا التناقض من ثنائيات متعددة و (الاسئلة) وهنا اسئلة الشاعر التي لم يصرح بأي منها رغم وجوده ضمنيا بهذا السؤال المفصلي (أأنت أنا ؟؟) فماذا كانت الاسئلة وماذا كانت الاجابات التي وصلت الشاعر عبر صوته الخاص ؟؟


سئمتُ من الطرْق ِ .. فافتحْ !!
سئمتُ انتظارَ يديكَ
سئمتُ ارتجافَ أصابعكَ الناحلة ْ .
لقد سكنَ البردُ عظمي
ونامَ الظلامُ بجسمي
وداهمني الخوفُ ،
قالَ .. وأكملَ :
ـ خوفي بدا خائفًا
مُذْ تركتُ رفاقًا هنالكَ في القافلة ْ

 

سئمت من الطرق فافتح... سئمت انتظار يديك، ارتجاف اصابعك الناحلة، سكن البرد عظمي، نام الظلام بجسمي، داهمني الخوف،  هذا الترتيب (الطرق، اليد، الاصابع، البرد، اظلام، الخوف) لم يكن اعتباطيا، هو سرد لحالة تفاقمت حتى غدت انفصاما .... الطرق تحذير ومسافة تعطي للصوت اهمية، انتظار اليد اي انتظار الفعل، ارتجاف الاصابع دليل على تردد في الكتابة، اصابع انبرت لكثرة الاستخدام وتفاقم في مفاصلها البرد، البرد والظلام والخوف، حالات متوالية لجسد يحمل روحا ضاقت بكل ما حولها وتريد ان تفصل ما تعانيه لكن تتردد فلماذا يا ترى ؟؟؟

 

"خوفي بدا خائفا، منذ تركت رفاقا هنالك في القافلة"  هذه الجملة جعلتني اعود لحوار قرأته للشاعر تطرق للعديد من القضايا المفصلية في حياة الشاعر المهنية، واقصد بها تلك التي تختص بعمله الصحفي، ترى هل قصد العمل الصحفي في "رفاق القافلة" وهل الابتعاد عنها يتركه خائفا او مرتبكا ؟؟؟  هنا لم افهم الجملة جيدا حتى اعدت الحوار واعدت القراءة، ثم اصغيت جيدا للكلمات، العمل مع الكلمة يؤدي الى ذلك النوع من الفصام الذي يفصلنا عن واقعنا ويجمعنا بواقع اخر، واقع ينفتح على الذات من الداخل، العمل الصحفي بكل ما به من معاناة سواء على  الصعيد النفسي او  المهني... سواء كانت تلك القافلة ووجوده بها ايجابي او سلبي لكنها تبقى مفصلية في حياة الشاعر واحساسه بذاته...ولان الكلمة (خوفي بدا خائفا) لم تحدد طبيعة هذا الخوف هل هو خوف من مواجهة الذات ؟ من الاخر ؟ مما حدث وسوف يحدث ؟؟ القافلة كلمة كالباب والاسئلة تحمل دلالات كثيرة وتحمل مشاعر كثيرة ايضا القت بظلالها على النص وبحثنا فيما وراء الكلمات...

 


فتحتُ ..
فألفيتُني واقفًا في العراء ِ
وفي البَرْدْ ..
ألفيتني خائفًا ، ووحيدًا ..
فما مِنْ مشاة ٍ يسيرونَ ،
ـ هل جفّت ِ السابلة ْ ؟!

 

(فتحت) أي انتقلت الى المواجهة ، مواجهة الذات بكل ما تقود اليه هذه المواجهة من ذكريات وانفعالات تجعلنا وللمرة الاولى نقف أمام أنفسنا عراة (واقفا في العراء...وفي البرد...) (خائفا ووحيدا) لا توجد مواجهة صادقة وحقيقية دون  أن تلقي بنا الى صحراء قاحلة لا يوجد فيها سوى صوت الذات.... وسؤال الاخير (هل جفت السابلة) ما هو الا محاولة اخيرة للهرب من الذات ومواجهتها وكأن القصيدة انتقلت الى الجدية إلى المستوى الفلسفي الذي حاول الشاعر الهرب منه عبر انشاء اجواء جميلة وهادئة الى تلك الحركة الراقصة الى المواجهة هنا....وكأن القصيدة نهر بدأ صاخبا وجميلا لينتهي في العراء بعد اختفاء الجهات...
وحدَقْتُ في وجههِ ِ ..
وَجْهُهُ كان وجهي ،
وعيناهُ عينيَّ .
ثمّة َ خوفٌ جليلٌ
يجلّلُ نظرتَهُ مثل خوفي
تماماً كخوفي ..
ملامحُهُ كالتي خلتُ في العائلة ْ.


ليس المقصود التماثل في الشكل رغم الاصرار عليه بتعداد (الوجه، العين، الملامح) لكن التركيز على شيء اعمق من الحواء وهو البعد الذي يظهر في العين (ثمة خوف جليل يجلل نظرته مثل خوفي) لكل منا هواجسه وخوفه لكن كلمة الخوف تكررت أكثر من مرة خوف من المواجهة مع الذات وخوف في داخل الذات.. ماذا يخيف الشاعر ؟؟؟
وألفيتُ ما كان حِمْلاً ثقيلاً
على ظهره ِ ، صارَ حِمْلي
وما كانَ ظلاً ظليلاً لهُ ..
صارَ ظلِّي ..
وأبصَرْتُ طيفَ وسامتِه ِ الآفلة ْ


في هذه المواجهة حدث أمر رائع للشاعر رغم ما يحيط المقابلة من كلمات وهذا الحدث هو الذي جعل الشاعر يبتسم لاحقا، انتقال الحمل والظل ... منه (اي الطارق) إلى (الشاعر) وكلاهما واحد فكيف يحدث ذلك ؟؟ انتقال الحمل من الاخر (انت) الى (أنا) انتقال من اللاوعي الى الوعي... أحيانا يثقل علينا هم دفين وداخلي لا نعيه فيطوق حياتنا ويحد من انطلاق ارواحنا وتحررها... أن نعي خوفنا واحمالنا معناه أن نستطيع أن نواجهها ونتحرر منها، عندما تخاف من شيء تعلمه تستطيع أن تواجهة وتحرر نفسك منه، لكن عندما تواجه خوفا لا تعرف مصدره ستظل خائفا تنظر من حولك ولا تصل لنتيجة حاسمة سوى مفاقمة الخوف..... أتوقف عن جزئية اخرى قد تكون مصدرا لخوف الشاعر وهو ( أبصرت طيف وسامته الافلة) هذه الجملة تشير الى قلق من العمر ...قلق نعانيه جميعا لكني اعتقد ان الشاعر وقله من العمر بالتأكيد سينصب على أمر مشترك وهو قلقنا من الذهاب قبل أن نقول ما نريد....وربما ورود كلمة (فم) اشارة الى الكلمة ...
ابتسمتُ ..
ابتسمْ ...
وخِلْتُ ابتسامتهُ وردَ فَمْ .
وحينئذ ٍ ..
ارتميتُ عليه وقبَلتهُ في الجبينْ
وعانقتُهُ إذْ لمَسْتُ به ِ قمرًا فاتنًا
وسماءَ اليقينْ .
وشمسي ..
وأيقنتُ أنِّي على الباب ِ
كنتُ أعانقُ نفسي

اتوقف هنا عند كلمة في غاية الاهمية (سماء اليقين) اليقين من الوصول الى مواجهة مع الذات تقود الى قناعات هامة كانت منجز هذا اللقاء واهم ما فيه، سماء اليقين ...تتبعها (شمسي) نعم هي اشراق ونور يغير الحياة وما نراه فيها.... هل كانت الاستضافة مقصودة ؟؟؟ أظن ذلك ليس لانجاز قصيدة ولكن لانجاز هذا العناق الذي يعيد الذات للذات ويردم المسافة ما بين (انا) و(أنت) ليعيد للذات يقينها.... الانفصام الذي نعانيه والمسافات التي نقطعها بمعرفة الذات والاخر تترك على ارواحنا الكثير من الالم والمعاناة، لتحول حياتنا إلى زوايا مظلمة وقصص مبتورة، دائما نحاول ان نصل الى قناعة ما ونفشل لاننا دائما نبحث في المكان الخطأ والاتجاه الخطأ ... أعتقد ان ما توصل اليه الشاعر اكثر مما روته لنا قصيدته ... واعتقد ايضا ان هذه القصيدة فاتحة لقصائد عديدة ستخبرنا عن هذه المواجهة الكثير... كلنها هنا قدمت لنا بسرعة ورقة هذا العناق.. عناق الذات  على (الباب) الباب الذي جمع الأنا بالأنا......

ليست هناك تعليقات: