الاثنين، 22 فبراير 2016

قراءة في قصيدة عادل بلغيث (اغنية من اعواد الصمم)


أغنية من أعواد الصمم
--'''''''---''-----
لا أدافع عن لغتي...عن مذهبي..
كل ما حز في صدر النقد ..هو لغتي
كل ما حز رأس القلب أيضا لغتي...
سواء كتبته أنا ...أو كتبه غيري
الحبر لا يعرف الحدود ..
هو ليس البلاد..بل سماؤها
هو ليس أضواء الشوارع والمنارات والخمارات...بل ليلها
لا أدافع عن قلبي
هو ككل القلوب..،
إن مرض فإلى المستشفى
إن شفي فإلى احتمال امرأة أو قصيدة
لا أدعي أنني أحتمل الإثنتين...
فالقصيدة عندي ..آخر حقيبة تحملها حبيبتي
و قوافيها هي الأبواب المصفوعة ...و الكراسي المقلوبة..و كلاب الطين الشتوي
حين أشفق عليى دمعتي من الوقوع بينها
**

سيأتي اليوم الذي تكون فيه لغتي
على شفتي لوحدي...
وأنا أتلوها على أقرب الوجوه
بيولوجية مني ...
كل شاعر يحتضر ...يعود الى جمهور الدم
وأمسية شعر على ظهر بطانية خضراء
فلا تستعجلوا ...انعدام شعبيتي...
لا تستعجلوا قبليتي..
وحبيباتي اللواتي من شمع المخيلة..وفتيل الشقاء
لا تستعجلوا هبوبي على القناديل ..
و الخوف من وجودي في علبة سردين فارغة.
و الاعتقاد بسماع صوتي من على الميرادور المهجور..
لا تستعجلوا في تحويل منامتي الى بدلة عسكرية
وتباني الى ربطة عنق 
مازلت حيا...ومازلت أكتب كالصبي
ولا أحلم بلقب شاعر الا حين أحرر بستانا من قبضة الصمت
و انسانا من لقب الموت..
و قلبا من الورق الميت في الوحدة
*******
لا أدافع عن ثرثرتي
أنا هنا لأتكلم...
وهناك لأصلب على جذع وردة الله
مادمت هنا...
فأنا منزعج من الشبه بين المثقفين وخبازي الأعياد
والسياسيين و الأمراض الموسمية
و الفقهاء وانجراف التربة البطيء...
ومن حقي ...أن أجذب شعر خيمة الشعر
و أجعل من طاولة المقهى منبرا جامعيا
و أحرض المئذنة على القبة
اتركوني أعيش هذا الكلام الذي تقطعه الرغبة
في البكاء....كما تقطعه الرغبة في البول
لقد أحببت زهاء....زهاء ربع قلب
ومازال الحب لم يعثر على الحب
لا وجود للخفقة الصافية الا في جهنم المواساة
أو في جنة لا تملك الا غرفتين...
واحدة للنوم وأخرى لمقابلة الله
.

لا أدافع عن وحدتي
هي شمطاء...
و التصوف بها هو أن أصنع من نفسي عدة أنفس
تتسع الأشياء في ظل غياب الأشياء...
فتصير السماء طاولة..
و النجوم شموعا...
و الخيال رب البيت..
لا أدافع عن وحدتي لكنها كعلم الفلك..
أرى بها جيشا من عدسة منظار
لكنني لا أقول هذا جيش يترصدني
بل ...أقول :هذا ما في العدسة ...لهذا اليوم
^^عادل بلغيث^^

نعم هي من أعواد الصمم، لم تكن أغنية هذه القصيدة بل هي ابعد من ذلك، عادل هنا يرفع قلبه ولغته ووحدته عاليا كما لو كان القلب واللغة والوحدة مجتمعة نجمة تشع بما تريد، وتقول ما لا يستطيع كثير من الشعراء قوله والتعبير عنه ببساطة ولكن بعمق، تعودت أن اقرأ ما أحب من الادب بصوت منخفض اولا ثم بصوت عال ... صوت اقول فيه يا اصدقائي هنا ادب جميل فتعالوا معي نحييي صاحبه...

الشاعر عادل بلغيث تفوق على نفسه هنا واختلف مع ما كان يكتب سابقا وكأنه وجد طريقه وما يريد قوله، ولخصه ببضع فقرات هي كل ما يحلم به شاعرحقيقي، ولا انفي عن نفسي انني حلمت ان اكتب ما يريد عادل كتابته...

لا ادافع عن لغتي عن مذهبي، لا أدافع عن قلبي، ثرثرتي ووحدتي... هي كل ما يتبقى لنا نحن الشعراء في هذه الحياة، اللغة والقلب، وما نقول (الثرثرة) وما وصلنا اليه (الوحدة)... قرأت النص وقلت هو نص جميل ثم قرأته مرة اخرى وقلت هو نص عميق وها انا اقرأ مرة ثالثة معكم ايها القراء لكي لا يفوتكم ان تقرأوا هذه النص....

اللغة/ المذهب... وضع عادل للغته التي هي مذهبه تعريفا بسيطا لكنه صارم ولا يقبل المفاصلة (كل ما حز في صدر النقد...كل ما حز رأس القلب) أي انه يبحث عن لغة حية مشاكسة لا تقبل ان تكون لغة ميتة شبيهة بملايين القصائد التي تتغنى بمواضيع تغنى بها الناس جميعا ... فالشعر ان لم يكن حياً وحقيقيا فما جدواه ؟... ما جدوى ان اصف المرأة بالقمر ملايين المرات ولا استطيع أن انقل ما يحمله انعكاس عينيها من صميم فؤادي !!

"سواء كتبته أنا او كتبه غيري" نعم ادرك عادل جيدا ان اللغة الحية لا تنتمي لكاتبها فقط ولهذا تابع "الحبر لا يعرف الحدود" مدركا ما هية الحبر الذي يقصده فهو "ليس البلاد بل سماؤها.. ليس اضواء الشوارع والمنارات والخمارات بل ليلها... وهنا اتوقف عند هذا الوصف الدقيق والعميق ... فالسماء ابعد من الحدود الضيقة للبلاد... لنفاجأ بوصف اخر اجمل واكثر انسانية حيث جمع "الشوارع" التي تضم كل اصناف البشر في حركتهم الدائمة سواء الذين يعرفون طرقهم او الذين يبحثون عن هدف ما... "المنارات" توصيف ايضا لنوعية من البشر يعرفون طريقهم جيدا بل وينيرون الطريق للاخرين بينما "الخمارات" تضم المتعبين والتائهين وانواع اخرى من البشر اتى ذكرهم لتكتمل الصورة الانسانية التي يريدها للغة هدفا وطريقا ولكن ليست اي لغة بل تلك "اللغة التي تحز رأس القلب" بحر لا يذكر اضواء تلك الاماكن بل "ليلها" وكلنا يعلم اننا في الليل اكثر صدقا مع الذات واكثر شقاء بقلوبنا وكأننا بالليل نعري دواخلنا ....

لينتقل في الفقرة الثانية .."لا ادافع عن قلبي" فهو ككل القلوب ماديا يمرض ومعنويا يكتب ويعشق... لكنه يعترف " لا ادعي انني احتمل الاثنتين" فهل يعوض العشق الشعر ام هل يعوض الشعر العشق ؟؟ ام ان كلاهما الم ما.. ؟؟ لنستمع لعادل كيف يجمع بينهما "القصيدة عندي اخر حقيبة تحملها حبيبتي" اي ان القصيدة تنمو من المعاناة ومن الفقد "وقوافيها" هي الابواب المصفوعة... اي الحدة والخصام والانفصال... "الكراسي المقلوبة... وكلاب الطين الشتوي حين اشفق على دمعتي من الوقوع بينها... " هنا يقربنا عادل من قلبه الذي يعطينا صورته جيدا ... فهو قلب ككل القلوب لكنه "يقاوم" حين يشفق على الدمعة من الوقوع بين  تلك الاشياء... وكأنه يقول رغم كل ما يبتلى به هذا القلب سيظل صامدا...

وهذا بالضبط ما بدأ به المقطع التالي "سيأتي اليوم الذي تكون فيه لغتي على شفتي لوحدي" اي انه يعد القلب واللغة بالوصول الى مراده ... لكن متى ؟؟ المقطع التالي مقطع حزين... وكأننا لا نبلغ الحكمة الا متأخرين وكان الحياة تسخر منا فهي تعطينا نفسها حين تسرق منا الزمن... فكرت كثيرا لماذا اراد عادل ان يتلو لغته "في اليوم الذي سيأتي" على اقرب الوجوه "بيولوجية" اي لماذا اختار صلة الرحم ؟ ولكن الكلمات التالية تذكر بشيء من التفصيل ما يصل اليه الشاعر... او الانسان بالمجمل... لكنه يخص "الشاعر" كونه اختار اللغة ...لغته الخاصة...

"كل شاعر يحتضر يعود الى جمهور الدم" و "البطانية الخضراء" وهنا ما يلون هذا المقطع ليس الاخضر والاحمر لون الدم بل تلك النهايات الحزينة التي تقلق الشاعر ولا تقلقه ... فهو يقترب من ذكر الموت بشيء من التفصيل وكأنه فكر به مئات المرات واستطاع ان يرى شكله جيدا وينعم النظر فيه اذ يقول "لا تستعجلوا انعدام شعبيتي" بنسيان جمهوره له ربما ...و "لا تستعجلوا قبليتي" ولكنه يذهب عميقا لما هو ابعد من النهاية "هبوبي على القناديل" و" وجودي في علبة سردين فارغة" و " الاعتقاد بسماع صوتي من على الميرادور المهجور" و "تحويل منامتي الى بدلة عسكرية" و"تباني الى ربطة عنق" .... وكأنه يريد ان ينظر خلفه من بعد الموت ليرى ما عليه الحال من بعده لكنه يستدرك انه لم يمت بعد ليقول ..."مازلت حيا ومازلت أكتب كالصبي"  وهذا تواضع من الشاعر الذي يحلم بلقب شاعر ."حين أحرر بستانا من قبضه الصمت.. وانسانا من لقب الموت وقلبا من الورق الميت في الوحدة" اذا الشاعر يدرك جيدا ما هو الشعر كما ادرك جيدا ما هي اللغة فالشاعر يحلم بأن يكون حقيقيا مبدعا حين يحرر "بستانا" و "انسانا" وقلبا" وهو حلم كثير من الشعراء الا ان  قله قليلة من تدرك ذلك وتسعى اليه.... فليس ابدع ولا اصدق ولا اجمل من هذا الحلم لشاعر يدرك جيدا ما يريد....


لينتقل الى المقطع الاخير ليعود الى نغمته الاولى "لا ادافع.." فبعد ان بين ما يريد باللغة والقلب يأتي ليذكر "الثرثرة" واختيار المفردة يدل على قلق الشاعر على حلمه وعلى قدرته في الوصول الى ذلك الحلم الصعب الذي لا يحلم به الا  كل شاعر حقيقي ..."انا هنا لاتكلم... وهناك لاصلب... " وكأنه يدرك ان اللغة او "الكلمة" مسؤولية الشاعر الحقيقي ليس هنا فقط بل هناك .....
ليبين لنا ما يريد ان "يتكلم به" انا منزعج من "الشبه" بين اصناف من البشر بيينهم بوضوح فذكرهم بصفاتهم دون رمزية او مداراة "المثقفين...والسياسين..والفقهاء..." وهم كل اسباب الخراب الذي يراه جيدا ويعيه ويعرف ان لغته تريد ان تحاربه بقوة لتحرر البستان والانسان والقلب من تلك الوحول التي اوجدها الشبه بين هؤلاء و "خبازي الاعياد...الامراض الموسمية ...انجراف التربة البطيء" ويدافع عن نفسه اذ يهاجمهم "ومن حقي" وهنا نستطيع ان نسمع بوضوح صوت عادل الغاضب والحزين والمليء بالقهر من كل ما حوله وكأنه يحذرنا من لغته القادمة ... فيصرخ بمن حوله "اتركوني" ...ليكمل غضبه او ثورته ... فهو رغم كل ذلك لا زال يشعر بالقهر من يقينه "مازال الحب لم يعثر على الحب" وهو هنا يعود للقلب في لغته او اللغة الناطقة بنبض القلب....ليخبرنا بما يحزنه اكثر "لا وجود للخفقة الصافية الا في جهنم المواساة ...او في جنه ..." وكأنه فقد الامل من ايجاد الحب الحقيقي الذي لا تخالطه شفقة ولا تأتي به النهاية ....

لينتقل الى مقطعه الاخير "لا ادافع عن وحدتي"  وهو يدرك تماما ان الوحدة هي التي ارته ما لم يكن يرى...نعم هي "شمطاء" لو كانت بديلا عن الحب الحقيقي والخفقة الصافية ... لكن لا بأس بها اذ وجد لها حلا "التصوف بها..." وهنا يطلعنا عادل على وحدته التي حولها من "كريهة" الى أفق فيه"تتسع الاشياء في ظل غياب الاشياء" وهنا في هذه الفقرة وحدها "تتسع الاشياء في ظل غياب الاشياء" اجد تعبيرا رائعا عن الوحدة بكلمات موجزة ولا عجب ان سبقتها كلمة "التصوف" فتنقلب الاشياء الى حقائق اخرى فالسماء طاولة والنجوم شموع والخيال رب البيت... فالوحدة "كعلم الفلك" ارى بها جيشا من عدسة منظار لكني لا اقول هذا جيش يترصدني"... وكأنه يقول لنا نعم اكتشفت الكثير الكثير في هذه الوحدة لكني لهذا اليوم او حاليا ...  اقول " هذا ما في العدسة لهذا اليوم" ... وهنا اقول هي القصيدة القصيدة الجميلة التي نظرنا منها كما ننظر من عدسة منظار لنرى ما لا يرى ونراه جيدا بتفاصيل مدهشة وعميقة ... ولكنه في فقرته الاخيرة كانه يغلق لنا صندوق الدنيا ويتركنا نفكر بكل ما جاء فيه ...هل هو حلم ام هو غير ذلك... عادل في قصيدته قدم نفسه باجمل ما يكون التقديم ولولا انني اردت ان اترك للقارئ ابعادا اخرى يبحر منها الى عمق الكلمات لكتبت اكثر من ذلك ..عادل تفوق على نفسه في هذا النص والنصوص التالية ستكون اجمل لانه وقف بشكل ثابت على عتبه الشعر وعتبه اليقين معا حين عرف ما يريد وادركه جيدا...

ليست هناك تعليقات: